الفينيقيون في شرق وغرب البحر المتوسط


تصميم العرض

الجزء الاول:مصادر التاريخ الفينيقي

1-المصادر المكتوبة

     1.1-الكتابات التاريخية:
     2.1-الكتابة الجغرافية:
     3.1-الكتابات الادبية:

2-المصادر الاثرية
    1.2-الخزف Ceramique:
    2.2- علم النميات:
    3.2-الكتابات المنقوشة epigraphie

الجزء الثاني: الاطار الجغرافي لفينيفيا

1-من هم الفينيقيون
2-أهم المدن الفينيقية
    1.2- جبيل (بيبلوس Byblos)
    2.2- صيدا Sidon
    3.2- صور

الجزء الثالث: عوامل التوسع الفينيقي
1-العامل الاقتصادي
2-العامل السياسي
3-العامل الاجتماعي

الجزء الرابع: مراحل التوسع الفنيقي

1-مرحلة الرحلات الاستكشافية والتجرية (القرن 12-8ق.م)
2-مرحلة الاستيطان (القرن 8-6ق.م)

الجزء الخامس: المنشات الفنيقية في الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط

1- قادس
2- لكسوس
3- أوتيكا
4- موتيا Molye
5- نورا Nora
6- قرطاج

الجزء السادس: الديانات الفينيقية

1- ملقارت
2- عشتارت
3- الطقوس الجنائزة
المصادر والمراجع

الجزء الاول: مصادر التاريخ الفينيقي

1- المصادر المكتوبة:

 أمام غياب مؤلفات فنيقية، تعتبر كتابات الاغريق والرومان مصدرا خصبا لدراسة التاريخ الفينيقي وتمتاز هذه الكتابات بتعدد أنواعها:

-الكتابات التاريخية: تمدنا بمعلومات وافرة حول نشاط الفينيقيين في البحر الابيض المتوسط وحول علاقتهم بمختلف الشعوب وخاصة الاغريق والرومان وعلى الرغم من ضياع العديد من المؤلفات كليا و جزئيا فان عددا لا بأس به من المؤلفين الذين عاشوا في فترات لاحقة اضطلعوا عليها واستفادوا منها في تاليف كتبهم، ومن بين أهم الكتب التاريخية التي يجب الاعتماد عليها نذكر : تواريخ لهيرودوت (ق.5ق.م) التاريخ الروماني (ق2.م)، "المكتبة التاريخية" لديدور الصقلي (ٌ1ق.م)

-الكتابة الجغرافية: وهي في غاية الاهمية بحيث تعطينا وصفا دقيقا في بعض الحالات المواقع الجغرافية وتحفظ اسماءها القديمة من الضياع وتذكر المسافات الفاصلة بينها. من بين أهم هذه الكتب نذكر: "الجغرافية" لسترابون (ق1 ق.م\1ب.م) "التاريخ الطبيعي" لبلين القديم (ق1 ب م) وتندرج كتب الرحلات البحرية ضمن هذا النوع من الكتابة ومن أشهرها رحلتي حانون وحميلكون في القرن 5 ق.م.

-الكتابات الادبية: من أبرز الكتب الادبية التي نجد فيها اشارة عن أحوال التجارة والبحارة الفينيقيين ملحمتي هومير (ق 9-8 ق.م) الاوديسة والاليادة وكوميد يابلوت (ق 3-2 ق.م) "القرطاجي الصغير" وملحمة سليوس ايتالكوس (ق1م) "الحروب البونيقية" ويمكن الاستفادة ايضا من المعاجم التي تم تأليفها في فترات لاحقة (ق9-12م) لانها تحتوي على معطيات لغوية وتاريخية وجغرافية تتعلق بالعالم الفنيقي.

من العيوب التي يمكن ملاحظتها على جميع هذه الكتابات عدم موضوعية ونزاهة اصحابها وانحيازهم لجانب الشعوب التي ينتمون اليها، ولهذا يجب على الدارس ان يكون شديد الحذر في تعامله مع هذه المؤلفات التي ربما تكون قد ساهمت في تزييف بعض الوقائع التاريخية.

2- المصادر الاثرية

والمقصود بها كل الاثار المادية من بنيان وتماثيل وقطع خزفية ونقدية وكتابات منقوشة وغيرها التي تنسب الى الفنيقيين.

ولهذه الاثار أهمية قصوى في التعرف على بعض الجوانب من التاريخ الفينيقي، كما أنها تسمح لنا من التأكد من بعض الاحداث الوارد ذكرها في المصادر المكتوبة، وقد عرف هذا الميدان تخصصات دقيقة وتطورات ملموسة.

-الخزف Ceramique: انطلاقا من نتائج الحفريات  التي همت العديد من المواقع الفينيقية تمكن العلماء من التعرف على اشكال الادوات الخزفية الفينيقية وترتيبها حسب جدول زمني، وتمتاز عن الخزف الفينيقي عموما بكونها محافظة ولم تعرف نفس التطور الذي عرفته مثيلتها الاغريقية.

من اليمين الى اليسار: قدموس والتنين - متحف اللوفر \هوميروس أوديسي - المتحف البريطاني

وتعتبر القطع الخزفية التي تم العثور عليها في قبرص من أقدم الاثار الفينيقية التي وجدت خارج فينيقيا وتعود للقرن 11 ق.م وقد عثر على قطع خزفية فينيقية أخرى بجزيرة كريت وتعود للقرن 10 ق.م وأخرى بجنوب اسبانيا وتعود للقرن 8 ق.م، وهذه التواريخ تساعدنا على تتبع تسلسل منتوجات من الخزف خضعت رغم طابعها الفينيقي الاصلي الى تأثيرات محلية وهو الامر الذي يفسر نوعية العلاقات التي كانت تجمع التجار الفينيقيين بالاهالي. وتصطدم دراسة الخزف الفينيقي ببعض العوائق الناتجة أساسا عن اتساع المجال التجاري الفينيقي وعن عدم وجود مؤلف شامل يحتوي على قائمة مفصلة لانواع الخزف الفينيقي.

- علم النميات (علم العملات النقدية): لم تظهر اولى القطع النقيدة الفينيقية والقرطاجية الا خلال القرن 5 ق.م، وكانت من الذهب والفضة والبرونز وتحمل نقوشا مختلفة منها ما تشير الى الالهة الفينيقية مثل ملقارت ومنها ما ترمز الى أهمية النشاط البحري، وأخرى تذكر ببعض الوقائع التاريخية. ومن الملاحظ ان سك العملات في بعض المستوطنات الفينيقية القديمة كقرطاج كان مستقلا ومتميزا عن  المسكوكات الشرقية، فالنقود البونيقية سواء التي ضربت في صقلية (ق5 ق.م) أو في اسبانيا (ق3ق.م) كان الهدف الاساسي منها تدعيم التجارة القرطاجية وتمويل الحملات العسكرية.

عملة فينيقية بها صورة قارب فينيقي


-الكتابات المنقوشة epigraphie

تهدف الابغرافية الفينيقية الى دراسة الكتابات الموجودة على أوراق البردي أو الكتابات المنقوشة على الاحجار والمعادن والطين وغيرها. وبفضلها تمكن المتخصصون من التعرف على قواعد ومفردات اللغة الفينيقية التي اندثرت ربما في القرن 5 م، فمجال الابغرافية الفينيقية مجال علمي يستوجب فك رموز هذه الكتابة وقراءتها واعطاءها تفسيرا لغويا قبل الاستفادة التاريخية.

من اليمين الى اليسار: لوح مسماري من أوغاريت -تقويم تل جازر

ومنذ منتصف القرن 18م، ظهرت اولى المحاولات الجادة لقراءة وترجمة الالواح والنقائش الفينيقية التي كان يتم العثور عليها، ومن أبرز الشخصيات التي ساهمت في تطوير هذا الميدان J.Barthelmy و E.Renan.

من اليمين الى اليسار: Barthelemy-Joliette \ Emest Renan dans les annees 187

وفي العقود الاخيرة توالت الابحاث الاركيولوجية وازداد اهتمام المؤرخين بالمسألة الفينيقية، بحيث شهدت كل مناطق البحر المتوسط تنظيم عدة ندوات ومؤتمرات لهدف منها تبادل الاراء حول القضايا التي تهتم بالعالم الفينيقي وبعملية التوسع الفينيقي، وظهرت مجلات ودوريات خاصة بنشر الاعمال المتعلقة بهذا الموضوع، والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا ليس هو محاولة التأكد من ممارسة الفينيقيين السيطرة الفعلية على طرق الملاحة البحرية في البحر المتوسط وانما هو العمل على فهم نوعية العلاقة التي كانت تجمعهم بالشعوب الاخرى .

الجزء الثاني: الاطار الجغرافي لفينيفيا

1- من هم الفينيقيون

يبدو أن رصد كلمتي فينيقيا ذات الدلالة الجغرافية والفينيقية ذات الدلالة العرقية - ورغم تشابههما بالكلمة المصرية فنخو Fenkhu، التي كانت تطلق منذ منتصف الالف الثالث ق.م على الشعوب القاطنة في سوريا وفلسطين- فانهما مشتقتان من الكلمة الاغريقية Phoin التي تعني اللون الاحمر، وقد كان الاغريق يطلقونها على الفينيقيين اشارة للون بشرتهم او ربما بسبب اشتهارهم بصناعة الثياب المصبوغة بالارجوان.

ويتفق معظم المؤرخين على ان الفينيقيين ينتمون الى الجنس السامي وأنهم هاجروا من موطنهم الاصلي في شبه الجزيرة العربية في اتجاه سواحل الشرق الاوسط، ويعتقد كذلك أن الفينيقيين هم ورثة الكنعانيين الذين أقاموا حضارة متميزة في فلسطين وبجزء من سوريا وذلك قبل ازدهار المدن الفينيقية، ولهذا تشير بعض المصادر الى ان فينيقيا كانت تسمى كنا chna اي كنعان.

ومما لاشك فيه فقد كان للظروف الجغرافية دور حاسم في دفع الفينيقيين الى ركوب البحر وفي تحديد معالم حياتهم الاقتصادية والسياسية، واذا من غير الضروري الاحاطة بكل تفاصيل المجال الجغرافي لفينيقيا فمن الممكن الالمام بأهم مميزات المنطقة التي تضم ساحل لبنان وجزء من ساحل سوريا، حيث استوطن الفينيقيون على الاقل منذ الالف الثالث ق.م وأنشأوا مدنا  متعددة.

خريطة توضح مواقع المدن الفينيقية القديمة في لبنان والدول الاخرى

وقد تغير امتداد الاطار الجغرافي لفينيقيا عبر القرون، ويبلغ طول الساحل الفينيقي حوالي 600 كلم تتوزعه مدن مستقلة تخضع لسلطة مركزية موحدة رغم رابطة الانتماء الجنسي  ووحدة الحضارة، وهذا الشريط الساحلي لا يتعدى عرضه 60 كلم بحيث تحده الى الشرق سلاسل جبلية يتعدى ارتفاعها في بعض الاحيان 3000 متر، وقد نتج عن هذا أمران أساسيان قلة المساحة الزراعية +صعوبة التنقل البري.

وبطبيعة الحال كان لهذه الظروف أثر كبير على الحياة الاجتماعية، والتوجهات السياسية والاقتصادية للفينيقيين، فعلى المستوى الاقتصادي استغل الفينيقيون سفوح الجبال والسهول الضيقة في زراعة الكروم والزيتون، بيد أن المصدر الرئيسي لثراءهم يتمثل في الثروات البحرية خاصة وان توفر الخشب ساعدهم في صناعة السفن، فاضافة الى استغلال خيرات البحر المتعددة من أسماك وأصداف استعملوها في صناعة الارجوان (صبغ أحمر يستخرج من صدفة الموريكس).

محارات من Bolinus brandaris ، واحدة من الموريكس المستخدمة في العصور القديمة للحصول على صبغة أرجوانية.

قام الفينيقيون منذ وقت مبكر برحلات استكشافية اهلتهم كي يلعبوا دور الوسيط التجاري بين العديد من الشعوب، وقد وطد الموقع الجغرافي الاستراتيجي هذا الدور باعتباره يمثل محورا ثلاثي الابعاد يربط ما بين بلاد الرافدين وفارس شرقا ومصر في الجنوب وبلاد الاغريق والرومان غربا. وهذا المنفذ الطبيعي الذي يصل بين مراكز الحضارات القديمة، كان في المقابل محط أطماع الامبراطوريات القوية مما جعل تاريخ الفينيقيين السياسي يتسم بالصراعات وبمعاهدات السلم مع مختلف شعوب البحر الابيض المتوسط والشرق الادنى، خصوصا وان المدن الفينيقية كانت تعجز عن تشكيل قوة عسكرية موحدة.

 ورغم عمليات البحث الاثري المتعددة تظل البنيات العمرانية للمدن الفينيقية العتيقة مختفية تحت عمران المدن الحديثة، وما نعرفه عن المؤسسات الفينيقية يسمح لنا بالقول ان كل مدينة كان يحكمها ملك يساعده في ذلك مجلس او جمعية على غرار معظم أنظمة مجتمعات الشرق القديم، ومن الراجح ان الملك كان يتمتع أيضا بالسلطة الدينية، غير أن ذلك لم يشكل القاعدة العامة بحيث أن كل مدينة كان لها الهة المدن المجاورة.

2 -أهم المدن الفينيقية

 انطلاقا من بعض  النصوص والكتابات المنقوشة تمكن الدارسون من التعرف على المراحل التاريخية وخصائص كل مدينة، ومن أهم المدن الفينيقية:

-جبيل (بيبلوس Byblos):

تقع على بعد حوالي 30 كلم شمال بيروت، على جوار مصب نهر ابراهيم، يعود تاريخ تعميرها الى حوالي سنة 4500 ق.م ثم تحولت خلال الالف الثالث ق.م الى مركز تجاري عالمي بحكم انشطتها التجارية وعلاقاتها مع مصر وبلاد الرافدين وجزر بحر ايجة.

أطلال موقع جبيل الأثري.
أطلال موقع جبيل الأثري.

وتعود فترة حكم أول ملك تشير اليه النصوص السومرية وهو عبد عدي Abd Addi الى حوالي  سنة 1977 ق.م وقد بدأت تستعمل الكتابة الابجدية منذ القرن 10 ق.م، وخلال الالف الثاني ق.م ارتبطت بعلاقات سياسية اقتصادية مع مصر، وخلال فترة السيادة الاشورية (القرنين 9-7 ق.م) كان ملوك جبيل يؤدون الضرائب للاباطرة الاشوريين، ثم استفادت من فترة الازدهار التي عمت المدن الفينيقية الى العهد الفارسي (القرنين -4ق.م)، بعد ذلك نجد بعض المصادر تشير الى تحالف ملك جبيل اينيل Ainel مع الاسكندر المقدوني. ثم خضعت بعد ذلك لحكم اسرة البطالمة ثم لحكم اسرة السلوقيين واخيرا ابان فترة السيطرة الرومانية أعادت جبيل نوعا من مجدها التجاري والحضاري القديم.

رسالة من ملك جبيل إلى أمنحتب الثالث ، تم استخراجها في تل العمارنة ، القرن الرابع عشر قبل الميلاد. متحف اللوفر
رسالة من ملك جبيل إلى أمنحتب الثالث ، تم استخراجها في تل العمارنة ، القرن الرابع عشر قبل الميلاد. متحف اللوفر.

-صيدا Sidon:

تقع جنوب بيروت على بعد حوالي 35 كلم  شمال صور، وعلى الرغم من كون الاشارات الاولى حول هذه المدينة تعود لحوالي 2300 ق.م فمن الراجح أن بداية تعميرها أقدم من ذلك (ربما الالف الرابع ق.م) أقام سكانها علاقات تجارية مع مصر وأسسوا مستوطنات لهم بجزر بحر ايجه وقبرص ورودوس.

ومن الدلائل التي تثبت مكانة صيدا الهامة نصوص الكتاب المقدس التي تستعمل كلمة الصيدونيين للتعبير عن مجموع العناصر الفينيقية، ويبدوا من خلال عمليات التنقيب أنها تعرضت لحريق حوالي 1195ق.م أجبر سكانها على الهجرة واللجوء الى مدينة صور. وأثارت قوة صيدا التجارية أطماع الاشوريين، بحيث ان وثيقة تعود لفترة حكم الامبراطور الاشوري تغلات فلسر Teghlat-Phalsar (1114 ق.م-1076ق.م) تشير الى تبعية صيدا وأرواد وجبيل لحكمه.

وخلال العهد الفارسي حصل ملوك صيدا على امتيازات عقارية تمثلت في ضم بعض المدن والقرى المجاورة وذلك مقابل مساهمتهم الى جانب الفرس في الحروب الميدية (وقعت بين الفرس والاغريق في ق5 ق.م). وعلى العكس من صور اثرت صيدا الاستسلام والدخول دون مقاومة تحت سلطة الاسكندر المقدوني. خلال القرن 3ق.م، تبنت نظاما جمهوريا يديره قضاة يتربعون على أعلى مراتب الحكم، هذا النظام الذي تبنته مدن فينيقية أخرى خلال فترات متقطعة من تاريخها.

- صور:

يعود تاريخ تأسيسها الى حوالي 2750 ق.م وهي تقع على جزيرتين صخريتين، وقد تم توسيعها وتوحيد الجزيرتين من قبل الملك حيرام الاول (أحيرام) (962-929 ق.م) وكان يفصلها عن الساحل مضيق طوله حوالي 500 الى 700م غمرته الرواسب، ثم أمر الاسكندر ببناء حاجز فوقه يوصله بالجزيرة. وكان يحيط بالمدينة صور منيع كما كانت تتوفر على مرفأ بين بناءين، أما بخصوص تزويدها بالحاجيات الغذائية وبالماء الصالح للشرب فكانت تعتمد على منتوجات الاراضي الداخلية المجاورة.

توضح حدود مدينة صور  في العام 332 ق.م

وكانت لها علاقات سياسة واقتصادية مع مدن فينيقية عديدة جراء هجرات شعوب البحر خلال القرن 12 ق.م وانطلاقا من القرن 10 ق.م أصبحت أهم مدينة فينيقية، حيث أقام ملكها حراب الاول علاقات تجارية مع النبيين داوود وسليمان ملكي العبرانيين كما استطاعت بسط نفوذها نفوذها على مجموعة من المدن الصغرى والقرى الداخلية، وتزامن تفوق صور مع فترة المد الاشوري وقد كان هذا الضغط بمثابة حافز اخر في عملية التوسع الفينيقي التي بلغت اوجها خلال القرن الثامن ق.م.

الملك سليمان يعطى الملك حيرام 20 مدينة له في أرض الجليل (ملوك الأول 9 10-14)
ويبدو أن المدن الفينيقية تحملت عبئ الضرائب التي كانت تدفعها للاشوريين غير أن ذلك لا ينفي قيامها ببعض الثورات. وفي عهد الملك حيرام الثاني (551-532 ق.م) دخلت صور تحت نفوذ الفرس وشارك اسطولها الى جانبهم في الحروب الميدية وابانت صور لاحقا عن مقاومة كبيرة أمام حملة الاسكندر المقدوني الذي حاصرها شهورا عديدة واستولى عليها بالقوة بعد قتل العديد من سكانها وتخريب بعض أجزاءها. وفي سنة 126ق.م وقعت على معاهدة مع روما ثم منحها الامبراطور الروماني سيبتيموس سيفيروس Septime- Sévère (193-211م) مرتبة المستوطنة ذات الحقوق الايطالية، وتشهد الاثار التي تعود للحقبة الرومانية على مكانتها المهمة في التجارة الدولية وعلى اشتهارها بمنتوجات صناعية معينة كالزجاج والارجون .

تمثال نصفي سيبتيموس سيفيروس ،
 ميونيخ glyptothek في متاحف كابيتولين ، روما . .

لابد من الاشارة في الاخير أن المصالح المشتركة وضغط الاخطار الخارجية فرضت على المدن الفينيقية ان تتكتل تحت زعامة احداها، وهكذا بالتسلسل كانت اوغاريت زعيمة المدن الفينيقية في اواخر القرن 16 ق.م وبعدها جبيل خلال القرن 14 ق.م وصيدا ما بين القرنين 12 و 11 ق.م وصور ما بين القرنين 10-6 ق.م ثم طرابلس في القرن 5 ق.م ، من ناحية اخرى برهن الفينيقيون من خلال اداءهم للضرائب الباهضة والمتعددة انهم كانوا يفضلون نهج الطرق السلمية لضمان عدم التدخل في شؤونهم الداخلية وأملا في توسيع افاقهم التجارية.

الجزء الثالث: عوامل التوسع الفينيقي

اذا كان من الممكن مقارنة عملية التوسع الفينيقي بشبكة المحطات التجارية التي أقامها الاشوريين في الشرق خلال القرنين 19-18 ق.م، أو بالنشاط الذي كان الحوض الشرقي في البحر المتوسط مسرحا له منذ منتصف الالف الثالث ق.م، فانها تظل ظاهرة فريدة من نوعها بحيث استطاع الفينيقيون ممارسة السيطرة على طرق الملاحة البحرية في البحر المتوسط وتجاوز سواحله في اتجاهات مختلفة، وتتعدد العوامل والظروف التي نتجت عنها هذه الظاهرة ويمكن حصرها فيما يلي:

1-العامل الاقتصادي:

يرتبط هذا العامل بالظروف الجغرافية المميزة لمنطقة الساحل الفنيقي، بحيث أن قلة الاراضي الصالحة لتعاطي الانشطة الفلاحية دفعت بالسكان الى توجيه انظارهم نحو البحر والاهتمام بالانشطة المرتبطة به، خاصة وأنهم يتوفرون على جميع المواد الضرورية لصناعة السفن، أضف الى ذلك ان المدن الساحلية الفينيقية كانت مهيئة للعب دور الوسيط التجاري بحكم الموقع الاستراتيجي للمنطقة كلها، والى جانبه قدم العلاقات الفنيقية مع بعض الشعوب، فان وجود مواد صالحة للتبادل كالخشب وفائض المنتوجات الزراعية كالزيتون والخمور وطد مكانتهم التجارية.

ونظرا لاحتياجات المجتمعات الشرقية المتزايدة من المواد الاولية والمعادن الثمينة، فقد تجرأ الفنيقيون على قطع مسافات طويلة في أعالي البحار مهتدين في ذلك بالنجوم الى ان اجتازوا مضيق جبل طارق ونزلوا ببلاد تارتسوس الغنية بالحديد والرصاص والفضة والقصدير، كما أن سفنهم كانت تعود محملة بالعاج والعطور والاحجار الكريمة والعبيد والحيوانات المتوحشة التي كانوا يحصلون عليها من خلال رحلاتهم على طول سواحل البحر الاحمر والمحيط الهندي والمحيط الاطلسي، او بفضل مراكزهم التجارية التي تنتهي اليها طرق تجارة القوافل.

ومقابل هذه المواد التي كان يتم تصنيع البعض منها وجد الفنيقيون أسواقا جديدة لتفريغ بضائعهم الزهيدة القيمة (الاواني الفخارية والمعدنية والمنتجات الزجاجية والنسيجية)، أيضا أصبح الفينيقيون عبارة عن سماسرة ومقاولين لا يمكن الاستغناء عنهم عندما يتعلق الامر برحلات او مشاريع تجارية بحرية وهو ما تشهد عليه خدماتهم الى جانب النبي سليمان والى جانب الفرعون.

الطرق التجارية الفينيقية
الطرق التجارية الفينيقية

2-العامل السياسي:

 يتمثل العامل السياسي الذي دفع الفينيقيين الى البحث عن افاق جديدة في سلسلة الصراعات التي كانت منطقة الشرق بصفة عامة مسرحا لها، في عجزهم عن توحيد مدنهم وتشكيل قوة عسكرية. وتجدر الاشارة في هذا الصدد الى تحول علاقات مصر مع المدن الفنيقية من طابعها السلمي التجاري الى احتلال عسكري خلال القرن 16 ق.م بعد طرد الهكسوس من مصر، وقد كان الهدف من ذلك جعل فينيقيا بمثابة جبهة متقدمة لحماية مصر من الاعتداءات الخارجية.

 وتضاعفت أطماع المصريين في احتلال المدن الفينيقية خلال فترة عهد الفرعون تحوتمس الثالث Thoutmes (1485-1408 ق.م)، الذي وسع أطراف امبراطوريته الى نهر الفرات وحاول توطيد نفوذ بلاده السياسي والاقتصادي على مدن فينيقية عن طريق فرض الضائب واتباع سياسة الرهائن.

وخلال القرن 14 ق.م أصبح الساحل الفنيقي موضع نزاع عسكري وسياسي بين المصريين والحثيين، نجم عنه التوقيع على معاهدة سنة 1280 ق.م تقضي بتقسيم الساحل الفنيقي الى منطقتين، الجنوب تحت نفوذ مصر والشمال تحت نفوذ الحثيين، وقد ظل هذا الوضع قائما الى بداية القرن 18 ق.م حيث ظهرت موجات شعوب البحر الذين قضوا على الامبراطورية الحثية ودمروا بعض المدن الفينيقية. غير أن البعض منها كجبيل وصور على الخصوص استفادت من فترات الفراغ السياسي التي تلت هذه الاحداث.

 ومع بروز قوة الاشوريين عمل ملوكها على اخضاع المدن الفنيقية وفرض الضرائب عليها. علاوة على الضغوط التي مارستها هذه الامم القوية عانت المدن الفنيقية من منافسة بعض الشعوب المجاورة كالاراميين والعبرانيين، والى جانب هذه الحوافز استغل الفينيقيون انهيار الحضارتين الايجية والمسنية، ووجدوا في البحر الابيض المتوسط متنفسا ومجالا ملائما لتنمية أنشطتهم التجارية واثبات هويتهم الحضارية.

3-العامل الاجتماعي:

كان الهرم الاجتماعي الفنيقي يتكون من طبقتين:

أ-الاشراف: وتتألف من الملك وهو حاكم المدينة، وقد كان الملوك يبررون مشروعية حكمهم والزام الرعية بطاعتهم بخلق أساطير تثبت انتسابهم الى سلالة الالهة، وهناك الكهنة ويمثلون جميع الالهة المقدسة في المدينة وعلى رأسهم كاهن معبد اله المدينة ثم الاغنياء وهم أرباب المشاريع التجارية ورجال المال والمصانع وملاكوا الاراضي، وقد كانوا يتولون مناصب ومسؤوليات عالمية وكونوا أسرا شهيرة.

ب-طبقة العامة: وتتألف من مواطنين يتمتعون بكل الحقوق (اداريين، حرفيين، تجار صغار، فلاحين أحرار) وأشخاص فقدوا جزءا من حريتهم بسبب ثقل ديونهم، ثم هناك العبيد وكانوا يتمتعون بحق الزواج وتوفير الاموال ويعملون في خدمة أسيادهم او الى جوار بعض المعابد أو يقومون بخدمة المدينة وكان معضمهم يتشكل من أسرى الحروب.

وقد كان مجلس الشعب او الجمعية العمومية وهي أعلى هيئة تمثيلية تحسم الخلافات السليمة التي تنشب بين أفراد الطبقة الحاكمة والتي تعمل على اكتساب اكبر عدد من هذا المجلس الى جانبها. ومن بين الاحداث التي تؤكد وقوع صراعات اجتماعية ذات اهداف سياسية ما شهدته صور خلال نهاية القرن 19 ق.م بين بيجماليون Pygmalion وأخته عليسا Alissa مؤسسة قرطاجة.

اضافة الى هذه النزاعات الداخلية كانت المدن الفنيقية تدخل في منافسات واصطدامات فيما بينها، لم تتحول الى حروب طاحنة كما حدث في الاغريق، لكنها زادت من أطماع الشعوب القومية. كما ان الاضطرابات التي عرفتها هذه المنطقة زادت من حدة الاكتظاظ السكاني الذي كانت تعرفه المدن الفينيقية، مما أجبر بعضا من ساكنتها الى الهجرة نحو المستوطنات الجديدة. الى جانب هذا الاحتمال يمكن ان تتصور أيضا حدوث أزمات اجتماعية دفعت بالفقراء الى البحث عن اراضي جديدة تضمن حياة أفضل.

خلاصة القول، على الرغم من اختلاف وتعدد العوامل التي أدت الى قيام التوسع الفينيقي، تظل التجارة سواء باعتبارها سببا أو نتيجة، أهم عامل في هذه العملية التي كانت لها تأثير كبير على الاوضاع السياسية والاقتصادية في المدن الفنيقية وعلى باقي الاطراف التي تعاملت مع هذه الظاهرة.

الجزء الرابع: مراحل التوسع الفينيقي

نستنتج بخصوص المصادر القديمة (جغرافية،دينية) أن شهرة الفينيقيين في الميدان البحري تفوق شهرة كل الشعوب الاخرى، وذلك باعتبار مساهماتهم  في تطوير صناعة السفن وتقنيات الملاحة البحرية ووصولهم الى مناطق بعيدة. فمن المتفق عليه ان البحارة الفنيقيين لم يقتصروا على الابحار قريبا من السواحل وانما قاموا باسفار طويلة دون توقف معتمدين على نظام التيارات البحرية وهبوب الرياح المألوفة .

الصورة1:جزء من لوح حجري من المرمر يصور حملة عسكرية بحرية للملك الآشوري سين آخي إريبا (سنحاريب705-681 ق.م) حيث نشاهد إحدى سفنه الحربية ذات الطابقين. وكانت سفينة سريعة ومخيفة، يحركها44 رجلا بصفين من المجاذيف على الجانبين، فيما يكون الجنود على المستوى العلوي المحاط بالدروع، بشكل يشبه تحصينات بعض أسوار المدن. النتوء هو لتدمير وإغراق سفن العدو.عثرت على اللوحة البعثة البريطانية في قصرالملك بتل قوينجق عام 1904-معروض في المتحف البريطاني.
الصورة3: نحت آشوري بارز يظهر سفن فينيقية تنقل الأخشاب (مهر الفينيقيون بالملاحة البحرية والتجارة)

واذا كانت الرحلات الفينيقية الاولى نحو الغرب تهدف الى ممارسة النشاط التجاري، فان تظافر عدة عوامل ذاتية وخارجية أدت الى تغيير هذه الاهداف، وانطلاقا من ذلك يمكننا التركيز بين مرحلتين أساسيتين من مراحل التوسع الفنيقي:

1-مرحلة الرحلات الاستكشافية والتجارية (القرن 12-8ق.م)

ترتبط بدايات التوسع الفنيقي في الغرب بالنشاط التجاري الذي عرفه عصر البرونز الحديث (حوالي 1300 ق.م)، وابتداء من هذا التاريخ، كانت المدن الساحلية تعتمد على الملاحة البحرية، بحيث ان البحر الابيض المتوسط لم يكن يشكل أمامها حاجزا بقدر ما كان يسمح لها بالانفتاح على اسواق جديدة، ولذا كان لهجرات شعوب البحر وانهيار الحضارات المتوسطية اثر كبير على أوضاع المنطقة، استفادت منه المدن الفنيقية في تنشيط معاملاتها التجارية مع المناطق المجاورة وتوسيع افاقها الى ابعد الحدود.

ومن المحتمل ان اسطول صيدا كان الاكثر نشاطا ما بين القرنين 12-11 ق.م، اذ تشير وثيقة وينامون الى وجود أسطول تجاري صيدوني يتكون من حوالي  50 قطعة، وربما بسبب نشاط الفنيقيين وهو ما شكل تقليدا لدى بعض المصادر الاخرى. وخلال القرن 10 ق.م أخذت مدينة صور مركز الصدارة بين المدن الفينيقية، الامر الذي يمكن الاستشهاد عليه مثلا لعلاقات ملكها حيرام الاول الخارجية، وباشارات الكتاب الاغريق واللاتين حول تشييد تجارها لمستوطنات في أقصى الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط كقابس ولكسوس سنة 1110 ق.م وأوتيكا سنة 1101 ق.م.

قبر أحيرام في المتحف الوطني ، ملك فينيقيا جبيل، 1000 قبل الميلاد بيروت
ويبدوا أن تاريخ تأسيس هذه المستوطنات غير مضبوط، اذ ان هؤلاء الكتاب ربطوا بطريقة تعسفية ما بين عملية التوسع الفينيقي وأحداث حرب طروادة Troie الاسطورية، وهذه الاشكالية المطروحة وغيرها تبين مدى صعوبة التعرف بدقة على الملابسات التي كانت تحيط بوقائع هذه المرحلة. واعتمادا على الابحاث الاثرية فان الهجرة الفينيقية نحو جزر قبرص وكريت وسردينيا تمت خلال القرن التاسع ق.م بينما تعود اقدم الاثار الفنيقية في جزيرة صقلية وفي شمال افريقيا وفي جنوب اسبانيا فقط الى القرن الثامن ق.م.

ويبدوا ان  هذه المنطقة الاخيرة الغنية بمعادن الفضة النحاس والقصدير، كانت من بين الاهداف الاولى للتوسع الفنيقي، ويؤكد ذلك وجود محطات على الطريق المؤدية الى شواطئ الاندلس. ويمكن اعتبار البحارة الفينيقيين خلال رحلاتهم الاستكشافية الاولى بمثابة تجار متنقلين يطمحون الى تحقيق أرباح كبيرة خاصة بعد اكتشاف المعادن الثمينة في منطقة تارتسيوس Tortessos.

وعلى هذا الاساس فانه من البديهي أن يقوم الفينيقيون بانشاء مراكز تجارية من أماكن استخراج المعادن تحولت فيما بعد الى مراكز استقرار دائم بفضل توالي عمليات التبادل عن طريق المقايضة بين العناصر الفينيقية والسكان الاصليين الذين كانوا في منأى عن تقدم المستوى الحضاري للمجتمعات الشرقية. ومما لا شك فيه ان اقامة المراكز التجارية ثم المستوطنات كانت مسبوقة بمرحلة انشاء سلسلة من المحطات كان البحارة الفنيقيون يتوقفون بها لاغراض تجارية او عند الحاجة.

2-مرحلة الاستيطان (القرن 8-6ق.م)

بطبيعة الحال لا يمكن اعتبار تاريخ معين كحد فاصل بين هاتين المرحلتين، فمرحلة الاستيطان هي تطور منطقي لمرحلة الاستكشافات المبكرة، ويمكن تفسيرها بمصادفة مجموعة الظروف السياسية والاقتصادية التي أسرعت بتطوير وظيفة المنشات الفينيقية الموجودة على طول سواحل البحر المتوسط. فاضافة الى منافسة التجار الاغريق التي دفعت الفينيقيين الى تقوية علاقاتهم مع الاهالي، كان من نتائج اكتساح الاشوريين لبلاد الشرق زعزعة الاستقرار الاجتماعي وتزايد الطلب على المواد الاولية والمعادن الثمينة من طرف الطبقة الغنية، غير أن هذا لا يعني ان عملية الاستيطان هي ظاهرة خاصة موازية لفترة السيطرة الاشورية على معظم اجزاء بلاد الشرق، اذ  أن بعض الأدلة تثبت استيطان الفينيقيين خارج مدنهم قبل ذلك ( من بين الادلة اشارة هيرودوت الى وجود ميدان الصوريين بمدينة منف المصرية ) .

كما تشهد المستوطنات الصيدونية والاورادية وغيرهما  في اثينا و Rhodesو Delos ان هذه الظاهرة استمرت في البحر الايجي خلال الفترة الهلنستية (القرنين 4-3ق.م). ويبدو ان دور المستوطنات الفينيقية لم ينحصر على الاغراض الاقتصادية وانما تمثل ايضا في اختلال مواقع استراتيجية تعزز حركة التجارة الفينيقية بصفة عامة، ومما يدل على ارتباط سكان المستوطنات بأوطانهم الاصلية ارسالهم اتاوات وهدايا سنوية لمعبد اله المدينة الام وهو ما يرمز ضمنيا الى مساهمة رجال الدين في تسيير هذه العملية، ومن جانبها كانت المدن الام ترفض اشراك اساطيلها في حملات اجنبية تستهدف المستوطنات الفينيقية في الغرب.

وفي هذا الاطار يجب التساؤل عن امكانية اعتبار السياسة الاستيطانية التي مارستها قرطاج ما بين القرنين 6 و 3 ق.م (من فترة حكم الماغوليين الى فترة حكم البرقيين) كمرحلة ثالثة من ظاهرة التوسع الفينيقي، من جانب اخر لم يقتصر النشاط الفنيقي على البحر الابيض المتوسط، فمن خلال احد النصوص الدينية نستمد قائمة باسماء المناطق التي تعاملت مع مدينة صور في المجال التجاري كأرمينيا وليديا في اسيا الصغرى وبعض ممالك شبه الجزيرة العربية (مملكة سبأ+ بلاد الرافدين وغيرها...)، ويمكن اضافة مناطق أخرى الى هذه القائمة اذا اخذنا بعين الاعتبار العثور فيها على أدوات ومنتوجات تم تصنيعها في المدن الفنيقية (اقليم قيليقيا Cilicie في بلاد الاناضول).

الجزء الخامس: المنشات الفينيقية في الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط

على طول سواحل الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط انشأ الفينيقيون مراكز تجارية واقامات دائمة ومستوطنات ويرتبط تحديد اختيار أماكن هذه المنشات بمواصفات طبيعية معينة وخصائص جغرافية مشتركة.

وتعترض المهتم لدراسة هذه المنشات العديد من الصعوبات منها، القيام بوضع جدول زمني لتاريخ تاسيسها، والتعرف على تنظيم مجالها الهندسي، وعلى وظائفها والالمام بعلاقة هذه المنشات فيما بينها، وعلاقة السكان المحليين بالعناصر الفينيقية وكذلك معرفة الانشطة الاقتصادية التي مارسها هؤلاء من جهة اخرى، فان المخلفات الاثرية التي تم الكشف عنها بالمواقع الفنيقية لا ترى لمستوى مثيلاتها الاغريقية، كما ان الكتابات التاريخية المتعلقة بالمنشات الفينيقية قليلة وتشوبها العديد من النقائص، ولهذا فان معلوماتنا حول تاريخ تواجد الفينيقيين في الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط تحتاج لبحث معمق ومتابعة مستمرة لنتائج الابحاث الاثرية.

تدل مقارنة اختيار أمكنة تشييد المنشات الفينيقية على أن أصحابها كانوا يحرصون على عدم التوغل في الاراضي  ويفضلون الاستقرار على الجزر الصغيرة او بمحاذات الساحل او بالقرب من مصب الانهار، وقد شجعهم على الاستقرار بالعديد من المواقع توفرها على ميناء جيد وتواجدها على منفذ طرق المعادن والمنتوجات المحلية ومجاورتها لتجمعات الاهالي.

خريطة تبين أماكن المستعمرات الفينيقية بالاصفر واليونانية بالاحمر ما بين القرنين 8 و6 ق م

ومن بين الاشكالات التي يواجهها المؤرخون تلك التي تتعلق بتاريخ اقامة المنشات الفينيقية خاصة وأننا نلاحظ تضاربا بين نصوص المؤرخين القدامى ونتائج عمليات البحث الاثري، يتجلى لنا هذا التضارب بشكل واضح من خلال امثلة قادس، لكسوس، اوتيكا التي تتزعم المصادر التاريخية انها تاسست خلال القرن 12 ق.م بينما لا تتعدى اقدم الاثار التي تم العثور عليها في هذه المواقع الى القرن 8 ق.م.

 يمكن تفسير هذه الاشكالية اعتمادا على معرفة طبيعة هذه المنشات والوظائف التي أنيطت بها منذ تاسيسها، كما يجب الاخذ بعين الاعتبار أن التواريخ المبكرة (1110 لقادس ولكسوس) و(1101 لأوتيكا) غير مضبوطة، وتعتمد على أحداث حرب طروادة كمرجعية تاريخية. على الرغم من اطوار هذا الحدث يصعب تحديد تاريخ وقوعها، ويمكن أيضا اللجوء الى رصد التحولات التي طرأت على المجتمعات المحلية المجاورة لمركز استقرار الفينيقيين لتحديد تواريخ وصول هؤلاء الى بلدان الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط.

من المعلوم أن النشاط التجاري هو أهم وظيفة كانت تشغلها المنشات الفينيقية، غير ان هذا لا يمنع ممارسة البعض منها على الاقل للانشطة الصناعية والحرفية وربما أيضا الفلاحية الموجهة للاستهلاك المحلي او الجهوي، وما يزكي هذا الرأي الذي أثبته الابحاث الاثرية امكانية التمييز بين وحدات من المنشات الفينيقية المتجمعة حول ممر محوري، ونجد انه في حين كان هذا المركز يقوم بدور الوسيط بين سكان التجمعات المحلية الذين يسهلون عملية الوصول الى المعادن الثمينة والعناصر الفينيقية المستقرة بباقي المنشات فان هؤلاء قاموا بتحويل هذه المعادن وربما ايضا ممارسة انشطة زراعية ولو بمجال ضيق تلبي احتياجات السكان الغذائية.

اما بخصوص علاقة الفينيقيين بالسكان المحليين فيمكن القول بانها كانت اجمالا لا تتم في جو يسوده التفاهم والتعايش السلمي في معظم المناطق بالحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط، ويمكن التمييز بين عدة مجالات حضارية واقتصادية نستطيع من خلالها معرفة مدى اندماج العناصر الفينيقية داخل المجتمعات المحلية، ومدى استيعاب الاهالي لثقافة الفينيقيين.

 ومن الملاحظ ان التاثيرات الشرقية كانت قوية بالتجمعات المتواجدة بالمواقع الاستراتيجية (مناطق استخراج المعادن بالقرب من مجرى الانهار) كما هو الحال بالنسبة لجنوب اسبانيا، وقد كانت طبقة الاعيان من الاهالي تحصل على مواد الترف والبذخ (قطع فنية من العاج او من المعادن الثمينة، كؤوس او مزهريات فائقة الاتقان...) بفضل تحكمها في تسويق المنتجات المحلية وربطها علاقات مباشرة مع التجار الفينيقيين. تجذر الاشارة كذلك الى ان عملية تبادل التاثيرات ترتب عنها في بعض الحالات ظهور أسلوب جديد يجمع ما بين التقنيات الشرقية والتقنيات المحلية.

قط مجنح من البرونز حوالي 700-575 قبل الميلاد متحف جي بول جيتي (لوس أنجلوس
قط مجنح من البرونز ، كان في الأصل جزءًا من قطعة أثاث ، من موقع غير محدد في الأندلس ويشهد على التأثير الشرقي على فن هذه الثقافة في وقت المستوطنات الفينيقية. حوالي 700-575 قبل الميلاد. جي سي ، متحف جي بول جيتي (لوس أنجلوس).

ومن بين أهم المنشات الفينيقية لمنطقة الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط نذكر :

-قادس: تقع هذه المدينة على شبه جزيرة مقابل مصب نهر Guadalete، وقد كانت خلال القرن الاول ق.م حسب شهادة Mela مفصولة تماما عن الساحل، وتذكر مصادر تاريخية اخرى انها كانت تتشكل من جزيرتين صغيرتين يفصل بينهما شريط بحري ضيق يمثل ميناءا داخليا، ويشير بلين القديم الى ان كلمة قادس مشتقة من اصل فينيقي وهي تعني المكان المحصن والمنيع، وتعود اقدم المخلفات الفينيقية التي تم العثور عليها بقادس الى القرن 8ق.م وغير بعيد عن هذه المستوطنة تتواجد بعض التجمعات المحلية Castilla de Domablance الذي ظهر خلال النصف الاول من القرن 2ق.م

لتلبية احتياجات التجار الفينيقيين المستقرين بقادس (تسهيل عملية الحصول على المعادن) وهنالك ايضا تجمع Berrueco de Medina ( تبعد 25 كلم عن قادس)، ويلاحظ ان أول التأثيرات الفينيقية داخل هذا المجتمع المحلي تعود الى القرن 8 ق.م، بناءا على هذا فمن الراجح ان تاريخ تأسيس قادس يعود الى هذه الفترة.

 وتعتبر هذه المدينة اهم المنشات الفينيقية على السواحل الاسبانية (الاندلسية) فهي تمثل موقعا استراتيجيا على عتبة المحيط الاطلسي، كما أنها توجد غير بعيد عن مصب نهر الوادي الكبير (Guadaluxis) الذي يقوم بتصريف الثروات المعدنية التي تتوفر عليها جبال Sierra Morena وهي بذلك أقرب المنشات الى أماكن التزود بالمواد الاولية، وتؤكد المصادر التاريخية قدم تأسيسها وسمعة معبدها الذي زاره العديد من الشخصيات البارزة كالقائد القرطاجي هانبال والامبراطور الرومالي يوليوز قيس، ومن المؤكد أن موقعها االجغرافي بأقصى أطراف العالم  القديم واهمية ثرواتها وكثرة أعداد سكانها خلال الحقبة الرومانية جعلها تحض ى بمكانة متميزة في كتابات المؤرخين القدامى، دفعت البعض منهم الى الخلط بينها وبين تارتسوس (بلين القديم وسالوست Sallustins CRISPUS).

 وتوضح قصة تأسيس مدينة قادس أن اقامة معبد الاله ملقارت كان الشاغل الاول للعناصر الفينيقية، اذ أن وظائف هذا المعبد متعددة من بينها تقديس اله مدينة الام وتوفير ملجأ امن، وضمان سلامة ونزاهة عمليات المبادلات التجارية.

-لكسوس: تقع على بعد 5كلم من مدينة العرائش المغربية على الضفة اليمنى من نهر اللوكوس الذي يحتضن حسب ما ترويه المصادر القديمة (بلين القديم) حديقة الهسبريت من أقدم الاثار الفينيقية بها تعود الى القرن 8 ق.م، بينما تزعم المصادر المكتوبة أنها أسست خلال القرن 12 ق.م. وتذكر رحلة Scylen انها مدينة للفينيقيين كما تشير اليها رحلة حانون، ونظرا لموقعها الاستراتيجي فقد كانت روابط العلاقة بين قادس ولكسوس خاصة في الميدان الاقتصادي.

خريطة من اعداد الاستاذ باهي

أما الاثار الاكثر بروزا بلكسوس فهي تنتمي للحقبة القرطاجية والموريطانية والرومانية، ونجد على واجهة بعض القطع النقدية المكتوبة بالبونيقية عبارة "مقام شمس" وتعني "مدينة شمس" وهي تمت بصلة كبيرة بالاسم الذي يطلقه الاهالي على هذا الموقع، ربما كان يقصد بها الحي الذي ضربت فيه هذه المقولة، في حين ترمز سنابل القمح وعناقيد الكروم والسمك المرسوم على الواجهة الاخرى من هذه القطع الى الخيرات والثروات الطبيعية لمدينة لكسوس.

-أوتيكا: تبعد بحوالي 31كلم شمال غرب العاصمة تونس وقد كانت من أهم موانئ شمال افريقيا لكنها اليوم تبعد عن البحر بحوالي 12 كلم. واعتمادا على الكتابات التاريخية فان تأسيسها يعود لفترة معاصرة بتأسيس قادس ولكسوس، بينما لم تكشف الابحاث الاثرية عن مخلفات تعود لفترة سابقة عن القرن 8 ق.م ويذكر المؤرخ سترابون أنها أهم المدن الفنيقية بعذ قرطاج في ليبيا وفي سنة 308 ق.م استولى عليها حاكم مدينة Agathof-Syraconre وخلال الحرب البونيقية الثانية كانت حليفة قرطاج لكنها استسلمت للرومان سنة 149 ق.م ودخلت تحت نفوذهم.

-موتيا Mozia : وهي جزيرة San pantaleo كانت تعتبر أهم المراكز الفينيقية في صقلية وذلك بحكم موقعها الجغرافي المقابل للساحل التونسي والذي جعل منها محطة توقف هامة. وتدل نتائج الحفريات ان أقدم الاثار الفنيقية بها تعود الى النصف الثاني من القرن 8 ق.م، ثم أصبحت لاحقا أحد معاقل النفوذ القرطاجي بصقلية، لكنها تعرضت لعملية تدمير سنة 397 ق.م، وقد توالت عملية التنقيب بها منذ القرن 17 م. وتم الكشف عن صور محصن طوله حوالي 3 كلم ذا شكل مستطيل بني على طول محيط الجزيرة ويعود الى نهاية القرن 7 ق.م ومقبرتين أقدمها تتواجد شمال الجزيرة وتعود الى نهاية القرن 8 ق.م.

إعادة بناء جزيرة موتيي كما كان ينبغي أن تظهر في القرن الخامس قبل الميلاد
إعادة بناء جزيرة موتيي كما كان ينبغي أن تظهر في القرن الخامس قبل الميلاد.

- نورا Nora: تقع بأقصى جنوب صقلية متصلة بالساحل الجنوبي لجزيرة سردينيا عبر مضيق صغير. واعتمادا على بعض النصوص التاريخية، يعد هذا الموقع أقدم المنشات الفنيقية بسردينيا، وتؤكد بعض النقائش أن استقرار الفينيقيين بها يعود الى أواخر القرن 9 ق.م أو بداية القرن 8ق.م. وكشفت الابحاث الاثرية عن تعاقب المخلفات الفينيقية والقرطاجية والرومانية لهذا الموقع.

- قرطاج: تقع قرطاج "حدش" اي المدينة الجديدة على بعد حوالي 16 كلم شمال شرق العاصمة تونس على شبه جزيرة بجوارها اراضي زراعية خصبة، وتم تأسيسها حوالي 314 ق.م من طرف جماعة من الفينيقيين على رأسهم اليسا أخت ملك صور بيجماليون وذلك على اثر احداث اقتصادية أو سياسية غير واضحة المعالم.

واعتمادا على المصادر التاريخية تشير اسطورة تأسيس قرطاج ان اليسا فرت من ظلم أخيها بيجماليون الذي قام بقتل زوجها أشرباس كبير كهنة معبد ملقارت، وبعد توقف في جزيرة قبرص وصلت هذه الرحلة الى الساحل الافريقي، حيث دخل الفينيقيون في علاقات مع العناصر المحلية وتم تأسيس المدينة الجديدة. ومن الراجح أن قرطاج لم تستقل سياسيا عن صور الا خلال القرن 8 أو 7ق.م، وكان لها في البداية نظام ملكي تم اسبداله بنظام القضاة Suffetes والاشباط في القرن 6 ق.م

اثار فينيقية في قرطاجة تونس
اثار فينيقية في قرطاجة تونس

وبعد مرحلة الاستقرار عرفت قرطاج تطورا سريعا بفضل أنشطتها التجارية التي كانت تحظى بعناية كبيرة استلزمت في بعض الاحيان حمايتها بالطرق العسكرية، وبموازات مع ذلك نجحت في مراقبة تحركات عملية التوسع الفينيقي وضم مختلف المراكز والمستوطنات الفينيقية الموجودة في الحوض الغربي للبحر الابيض المتوسط في اطار امبراطورية تمتد من موقع بليبيا حاليا يسمى معابد فلين  les Anteles des Phillenes الى موقع موكادور، وتشمل عددا من المراكز في اسبانيا وكورسيكا وسردينيا وصقلية اضافة الى الشمال الافريقي.

قرطاج والأراضي الواقعة تحت تأثيرها السياسي والتجاري حوالي 265 قبل الميلاد.  قبل بداية الحروب البونية.
قرطاج والأراضي الواقعة تحت تأثيرها السياسي والتجاري حوالي 265 قبل الميلاد.  قبل بداية الحروب البونية.

 وقد حدثت في العديد من هذه المناطق نزاعات عسكرية بين القرطاجيين والاهالي او العناصر الاجنبية الاخرى (الاغريق) على تأمين مصالحهم وتوسيع شبكتهم التجارية. ومن أهم تلك الحروب التي خاضها القرطاجيون ضد المستوطنين الاغريق بصقلية حدثت ما بين القرنين السادس والثالث ق.م.

وفي سنة 264 ق.م أدى التدخل القرطاجي في نزاع نشب بمضيق ميسين الفاصل بين صقلية وايطاليا في اندلاع سلسلة من الحروب ضد روما التي كانت قوتها في تصاعد مستمر، وهذه الحروب تعرف بالحروب البونيقية انتهت بتدمير قرطاج سنة 146 ق.م وقد كانت علاقة هذين الطرفين تتخذ في السابق شكلا سلميا، بحيث انهما وقعا على عدة اتفاقيات سلمية (خاصة النصف الاول من القرن 5ق.م\348 ق.م كانت الاتفاقية الثانية، أما الاتفاقية الثالثة 343 ق.م والاتفاقية الرابعة 306 ق.م والاخيرة 278 ق.م).

الحروب البونيقية

وتعود أقدم المخلفات الفينيقية التي عثر عليها في قرطاج والمتمثلة في قطع الفخار وبعض الجواهر والادوات الجنائزية (جواهر، أدوات الزينة، أباريق) الى القرن 8 ق.م وقد تمكن علماء الاثار من ابراز بقايا عديدة من المرافق الحيوية كالمعابد والمدافن وكذلك مرفأين الاول تجاري والاخر عسكري، دائري الشكل يقيه جدار محصن من فضول الاجانب، كما تم أيضا العثور على عدد من التوابيت والاقنعة والعديد من أنواع القناديل وقطع زجاجية وأخرى من العاج وقطع من الخزف الاغريقي، اضافة الى عدد كبير من النصب التذكارية. وتجدر الاشارة كذلك الى العديد من المخلفات الموجودة بقرطاج والتي تعود الى الحقبة الرومانية كالمسرح وحمامات أنطونيوس وكنيسة القس سبريان S.Cyprien وغيرها من العديد من الماثر.

مرفأ قرطاج القديم
مرفأ قرطاج القديم

الجزء السادس: الديانات الفنيقية

تنقسم المصادر المتعلقة بالديانة الفينيقية الى قسمين: أدبية، وتتمثل في نصوص المؤرخين القدامى والكتابات الدينية والاثرية وتتمثل في الالواح المنقوشة والفن الديني والرموز التي تحملها بعض القطع النقدية وكذلك في الطقوس الجنائزية.

كما في شعوب العصور القديمة احتل الجانب العقائدي في حياة الفينيقيين مكانة مهمة. وعلى العموم فان أرباب المجتمع الفينيقي، تنطبق عليهم مميزات ذات علاقة بالخلق والانتج والخصوبة. وتعتبر محاولة الكتاب الاغريق والرومان لوضع تماثيل مقاربة بين الهتهم والالهة الفنيقية أمر متداول ويسهل معرفة خصائص كل اله.

واضافة الى الهها الخاص كانت كل مدينة على معبودات أخرى ومما يفسر العدد الضئيل نسبيا للالهة الفنيقية الى تركيز السلطات الدينية وهو امر يكرس نظام الحكم الملكي والعادات المحلية، وتبرز نزعة الفينيقيين المحافظة والمتشبثة باستمرارية الطقوس الشرقية حرصهم على نقل عبادة الهتهم الى جميع المنشات التي أسسوها خارج فنيقيا، وتمسكهم بنفس العادات الممارسة في الوطن الام. ويبدو أن الديانة الفنيقية كانت مرتبطة بالمعتقدات الطبيعية المعروفة بمنطقة الشرق والتي تولي المجال الزراعي اهمية كبيرة.

انه بعد تزايد الاهتمام التجاري البحري، اكتست الالهة الفينيقية صفات وخصائص بحرية، ومن أشهر الهة المجتمع الفنيقي:

- ملقارت: اي ملكة المدينة، وهو اله مدينة صور الاول، وتعود عبادته الى الالف الثالث ق.م. جاء ذكره الى جانب الالهة عشتارت وباقي الالهة  الفينيقية الكبيرة بين بعل ملك صور والملك الاشوري خلال القرن السابع ق.م، وكان يقام له بصور سنويا عيد كبير وتماثيل الكتاب الاغريق كهيرودوت وبوليب، هويته بهوية الاله البطل الاغريقي هرقليس والصفات التي كانت تميزه كانت ترتبط بالمجال البحري.

نصب يصور ملقرت على أسده، من عمريت في سوريا، ح. 550 ق.م.
ومما يثبت اقدام الفنيقيين بصفة عامة والصوريين بصفة خاصة على اشراك هذا الاله بنشاطهم المتصل بالبحر، انتشرت عبادته في جميع المراكز والمستوطنات والمدينة الام، واستمرت عبادته الى العهد الروماني. وكدليل على صفاته البحرية نجد صورته على قطع نقدية مسكوكة بقادس مرفوقة بسمك التون والدلافين. وتجدر الاشارة كذلك ان معبد ملقارت بقادس لم يكن يقتصر على لعب دور مركزي ديني، بل كان ايضا بلغت ثرواته شهرة كبيرة دفعت بالبعض الى نهبها.

- عشتارت:

عشتروت الهة الحب و الجمال لدى الفينيقيين

وهي المعبود الاول في جبيل وبيروت، وقد وصف بوظائف متعددة فهي الهة الخصوبة والحب، وهي بذلك تطابق أفروديت الاغريقي وقينوس الروماني، كما أنها تظهر احيانا كمحاربة واكتسبت ايضا طابعا بحريا، انتشرت عبادتها في جل أنحاء البحر المتوسط .

من اليمين الى اليسار: الاله أفروديت \ تانيت \ ادونيس

واهم المعبودات في قرطاج هما الالهة بعل حمون الذي دعاه الاغريق زيوس الالهة وعرف في العهد الروماني بساتورن، والهة تانيت وهي تقابل الالهة الرومانية حرتون Tunon، وقد عثر بقرطاج على حوالي 4000 نقش تكريمي مقدم لهذين الالهين. يتألف مجمع الالهة الفينيقية من الهة اخرى كأدونيس Adonus واريسAres ورشيف .Reshef

من اليمين الى اليسار: الاله بعل حانون \ تمثال لبعل الفينيقي  متحف الاندلس وجد باسبانيا \

وبخصوص أماكن التعبد كانت المعابد الفينيقية تقام عادة على مرتفعات تشرف على المدينة، وهي عبارة عن ساحات تحيطها اسوار مسقفة، يوجد في الوسط معبد صغير يقابله مذبح للقرابين وحوض مقدس، يوجد بها كذلك مواضع خاصة للكهنة. ويجب على الزوار احترام هذا المجال وعدم تدنيسه. وكانت تسهر على المعابد جماعة من الكهنة تشرف على اقامة الشعائر والطقوس يساعدهم في ذلك عدد من الخدم.

وكانت المناصب الكهنوتية العليا وراثية كباقي المناصب الرفيعة، وحصل رجال الدين على امتيازات مارسوا عن طريقها تأثيرا حقيقيا على تطور المجتمع الفينيقي بصفة عامة.

وقد كان الفينيقيون يحتفلون بمعبوداتهم وفق جدول زمني يطابق التقويم الفلاحي، ويتم ذلك في اطار موكب عمومي، ويقوم المشاركون برقصات مصحوبة باناشيد حزينة وتقديم القرابين واحداث مأدوبات مشتركة. ومن أهم مظاهر هذا الاحتفال تقديم الذبائح والاضحيات للالهة وذلك بهدف نيل رضى وبركات الاله والتكفير عن الخطايا. وقد تم العثور في بعض المستوطنات كقرطاج تطلعنا على نوعية الاضحيات المقدمة (ثيران أكباش، طيور...)، أما عادة تقديم الاضحيات البشرية فهي نابعة من أقدم التقاليد الكنعانية، بحيث كانت تمارس هذه العادة لدرء الكوارث وفي حالة وقوع اخطار جسيمة وهذه العملية كانت تتم عن طريق الاحراق.

القرطاجيون كانوا يقومون بالتضحية باطفالهم واهدائها كقرابين
وبخصوص الطقوس الجنائزة فهي ترتبط بفكرة خلود النفس بحيث كان الفينيقيون يعتبرون القبور بمثابة منازل أبدية، تظل فيها روح الميت حية، ولهذا كانوا يضعون داخلها بعض الادوات معتقدين انها كفيلة بحماية الميت من القوى الشريرة، كما أن قيمة هذه الادوات تعكس المكانة الاجتماعية للميت.

يمكن القول أخيرا ان مظاهر الديانة الفينيقية تتشكل من مميزات مقتبسة من معتقدات مجتمعات بلاد الشرق (فلسطين\مصر\بلاد الرافدين، اضافة الى الخصائص المحلية) كما أنها تشبه الى حد ما الاساطير المتعلقة بالالهة الاغريقية .

📚المراجع

- تاريخ هيرودوت الشهير , الكتاب الأول  

-تاريخ هيرودوت الشهير الكتاب الثاني .

- تاريخ هيرودوتس الشهير , ترجمة حبيبي أفندي بسترس مطبعة القديس جورجيوس , بيروت 1886-1887

- محمد بيومي مهران، المدن الفينيقية (دار النهضة، بيروت 1994).

- نونوس، الأدونيسيات . 

-أعمال لقيان السميساطي المفكر السوري الساخر في القرن الثاني الميلادي .

- تاريخ سوريا الحضاري القديم تصحيح و تحرير : د. أحمد داوود

- كتاب " صور حاضرة فينيقيا " معن عرب , دار المشرق , بيروت .

- القاموس الكلداني للمطران يعقوب أوجين منا .

- الحضارة الفينيقية، سبتينو موسكاتي، ترجمة نهاد خياطة (1988).

-  لبنان في التاريخ، فيليب حتي، ترجمة: أنيس فريحة (دار الثقافة، بيروت 1959).:

- أوفيد " التحولات " المترجم إلى العربية تحت إسم " مسخ الكائنات " .

- نظرية التكوين الفينيقية و آثارها في حضارة الإغريق ترجمة و تعليق يوسف الحوراني .

-الفينيقيون في شرق وغرب المتوسط، تأليف ماجد أحمد الحمداني

- العش والجندي وزهدي، المتحف الوطني بدمشق (دليل مختصر 1969).




- Histoire de la Phénicie, Éditions Perrin, Paris 2013.

-Harden ,D. The Phoenicians , Thames and Hudson , London 1963

-Fantar , M.Hassine , Carthage , Alif , 1993

- Die Phonizier, Kohlhammer, Dinitri Constantine Baramki ,Stuttgart, 1965.

- The Phoenicians and the west : Politics, colonies and trade, Maria Eugenia Aubet et Mary Turton : Cambridge University Press, Cambridge, New York, 1993.

- Économie des cités phéniciennes sous l'Empire perse, Institut Universitaire Oriental, Naples, 1990.

- Biblioteca Phoenicia : Ottomila titoli sulla civiltà fenicia , Gruppo editoriale internazionale, Roma, 1994.

- Les Phéniciens, aux origines du Liban, Françoise Briquel-Chatonnet et Eric Gubel Gallimard Découvertes 358, Paris, 1998.

Several contributors , Ougarit , Somogy , Paris , 2004

- La civilisation Phénicienne, avec 137 illustrations, Georges Contenau, Library Binding, 1926 - Payot, Paris, 1928.

- La Méditerranée des Phéniciens, Somogy, Institut du monde arabe, impr., Élisabeth Fontan et Hélène Le Meaux،Paris, 2007.

- Les Phéniciens : L'expansion Phénicienne : Carthage, Gallimard, André Parrot, Maurice H.Chéhab et Sabatino Moscati :  Paris, 2007.

- Les Phéniciens, Arthème Fayard, Sabatino Moscati et Pierre Amiet :  Paris, 1971 - Le Chemin vert, Paris, 1989.

- Art Phénicien : La sculpture de tradition Phénicienne, Annie Caubert et Elisabeth Fontan : Musée du Louvre, Département des antiquités orientales, RMN, Paris, 2002 - Snoeck, Gand, 2002.

- L'art Phénicien du IIe millénaire, René Dussaud :  Paul Geuthner, Paris, 1949.

- G.SAADE: Ougarit métropole cananéenne (imprimerie Catholique Beyrouth 1979).

- Recherches sur les relations entre l'Orient Phénicien et Carthage, Ahmed Ferjaoui Editions universitaires, Vandenhoeck & Ruprecht, Göttingen, Friboourg, en coopération avec la Fondation Beït al-Hikma, Carthage, Tunisie, 1993.

- Les Phéniciens, Arthème Fayard, Sabatino Moscati et Pierre Amiet :  Paris, 1971 - Le Chemin vert, Paris, 1989.

- Phoenicians : Lebanon's epic heritage, Holst Sanford, Cambridge and Boston Press, Los Angeles, 2005.

- Dieux et Déesses de l'univers Phénicien et Punique, Anthony J.Frendo et Nicholas C. Vella, Département Oosterse Studies, Uitgeverij

إرسال تعليق

0 تعليقات